مما لا يُختلف فيه أن التغيير هو سنة الله في الكون، لكن سرعة التغيير في عالمنا اليوم غير مسبوقة. السياسات تتبدل، والتكنولوجيا تتسارع، وحتى العادات الاجتماعية تعيد تشكيل نفسها بشكل شبه يومي. نعيش في سباق دائم للمواكبة، مما يدفعنا لطرح سؤال جوهري: ما الذي يبقى ثابتًا؟
الثابت الحقيقي هو حلقة التغيير ذاتها. حين نقرأ التاريخ، تتضح لنا أنماط تكرار السلوك الإنساني. فالنفس البشرية تتفاعل مع التغيرات بطريقة متشابهة عبر العصور، وكذلك تفعل المجتمعات. والسؤال التالي هو: كيف تتفاعل هذه المجتمعات مع التغيرات المفاجئة؟ كيف تصمد أمام الظروف غير المتوقعة؟ ومن الذي يقودها لتحافظ على تماسكها ويمنعها من الانهيار أو التشتت؟
التغيير نفسه ليس موجة عابرة ولا حدثًا خارجيًا يفرض نفسه علينا، بل هو عملية مستمرة تتطلب وعيًا ذاتيًا وإرادة جماعية. قيادة التغيير لا تعني مقاومة الجديد أو التمسك بالمألوف، بل تتجسد في القدرة على التأهب للمستقبل، والاستفادة من كل فرصة، وتوجيه الطاقات نحو البناء لا الهدم. نحن لا نستطيع منع الرياح من الهبوب، لكن بوسعنا رفع أشرعتنا بوعي وإصرار، لكي نبحر بثبات.
وسط هذه التساؤلات، تظهر لنا الحاجة لإعادة التفكير في مفهوم القيادة ودورها في خضم التحولات الكبرى. لأن المجتمعات التي تدرك أهمية التغيير وتحتضنه بوعي، تنجح في تجاوز الأزمات وتعيد صياغة مصيرها. القيادة هنا ليست مجرد صفة تُمنح لفرد أو مجموعة، بل هي عملية شاملة تبدأ من إدراك الفرد لدوره، وامتلاكه الشجاعة لمواجهة المجهول، وانفتاحه لتعلم الجديد ومشاركة المعرفة. فعندما ترتقي المجتمعات في فهمها لمفهوم القيادة، تجد أن أبطال التغيير ليسوا فقط في مواقع السلطة، بل في كل من يساهم في تعزيز ثقافة المسؤولية المجتمعية، ويغرس القيم في محيطه اليومي. بهذا تتسع دائرة التأثير، ويصبح جميع أفراد المجتمع شركاء في صناعة المستقبل، لا مجرد متلقين لتقلبات الزمن.
وفي ظل التحديات الراهنة التي نعيشها، أصبح تأهيل شبابنا للقيادة أوجب من أي وقت مضى؛ نعني بالقيادة هنا المبادئ والمهارات والسلوكيات التي لا تزال غائبة أو مشوشة في أذهان كثيرين وليس مجرد المنصب.
ماذا يحتاج شبابنا؟
تكمن الفرصة الكبرى في الأرقام. فوفقًا لتقديرات الأمم المتحدة للسكان، يشكل الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا حوالي 30% من سكان الدول العربية، أي نحو 110 ملايين شاب وشابة. بل إن أكثر من نصف سكان المنطقة هم دون سن الثلاثين. هذه الأرقام مقارنة بالدول الأوربية وشرق آسيا التي تعاني من شيخوخة سكانية، تكشف عن كنز ديموغرافي واستراتيجي. ولكن، ككل كنز، لا قيمة له إن لم يُستثمر بطريقة ذكية ومستدامة.
إزاء هذا الواقع، نطرح على أنفسنا سؤالاً مصيريًا كمؤسسات ومربين وقادة مجتمع: كيف نمكن هؤلاء الشباب؟ كيف ندربهم ليكونوا قادة الغد؟ كيف نتيح لهم الفرص ليقودوا التغيير بدل أن يكونوا ضحاياه؟
تبدأ رحلتنا في حنّان لبناء هذا الاستثمار البشري، عبر ثلاث مسارات مترابطة:
- تطوير السلوك المجتمعي المجتمع الذي ينهض، يحتاج إلى أفراد يتحلون بالمسؤولية، يؤمنون بالقيم المشتركة، ويمارسون أدوارهم بوعي وشغف. فالمجتمعات المتقدمة تبنى على وعي أفرادها، لا على مواردها فقط.
- التطوير المهني والشخصي لا قيادة بلا كفاءة، ولا تأثير بلا وعي ذاتي. لذلك، يعد الاستثمار في مهارات الشباب، وتعزيز نموهم الشخصي، أساسًا ضروريًا في قيادة مجتمعاتهم بثقة واستعداد.
- القيادة نحتاج إلى إعادة تعريف القيادة من كونها سلطة أو منصب، إلى كونها مسؤولية ورؤية وتأثير، بناء القادة الحقيقيين يبدأ حين نكشف عن إمكاناتهم الفردية، وتنميتها عبر التوجيه والتمكين.
إن بناء مستقبل أكثر إشراقًا يبدأ من إيماننا بدور الشباب في قيادة دفة التحول الاجتماعي، ومن قدرتنا كمؤسسة على خلق بيئة حافزة تثمن المبادرة والإبداع وتحتفي بالأصالة. لنجعل من كل تحدٍ فرصة للتعلم والنمو، ونمهد الطريق أمام جيل جديد يتقن فن القيادة، ويملك أدوات المشاركة الفاعلة، ويضع بصمته في كل مجال. حين تتضافر الجهود وتتعانق الرؤى، يصبح الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الأنجح، وتولد مجتمعات قادرة على مواجهة المتغيرات بثقة وأمل.