تمر المجتمعات أحيانًا بلحظاتٍ فاصلة، لحظاتٌ لا تعود فيها الحياة كما كانت. أزمة اقتصادية تُسقط آلاف الشباب في البطالة. تفكك أسري يترك جيلاً كاملاً يبحث عن معنى، أو حرب تُحيل المدن إلى ركام. وفي خضم هذا كله، نسأل أنفسنا: هل يمكن أن يولد شيءٌ جميلٌ من تحت الأنقاض؟
الحقيقة أن الولادة الجديدة لا تبدأ من القمم العالية، بل من الجذور العميقة. تبدأ حين نعيد النظر في الإنسان نفسه، عقله، قلبه، وثقته بقدراته. حين ندرك أن إعادة البناء لا تعني إعادة الجدران وحدها، بل إعادة الإنسان أولاً.
حين ينهض المجتمع من جديد
التاريخ مليء بالشواهد، اليابان بعد أن دُمرت في الحرب العالمية الثانية لم تُبن فقط بالمصانع والطرقات، بل بالانضباط الجماعي وإعادة غرس قيمة العمل والإبداع في جيل كامل.
رواندا، التي عاشت واحدة من أقسى المآسي الإنسانية، لم تنهض فقط بالمشاريع الاستثمارية، بل بدأت بمصالحة وطنية أعادت الثقة بين أبناء المجتمع الواحد.
وألمانيا بعد سقوط جدار برلين، لم تقتصر نهضتها على توحيد البنية التحتية، بل على الاستثمار في التعليم، وإحياء روح المشاركة، والإيمان بالوطن الواحد.
كل هذه الأمثلة تؤكد: لا يمكن أن نعيد بناء الحجر قبل أن نعيد بناء البشر.
البداية من الداخل
الولادة الجديدة دائمًا تبدأ بفرد، ثم تمتد لمجموعة، وحين يتطور السلوك المجتمعي تتحول إلى تيار.
حين يستيقظ الفرد، يبدأ المجتمع بالتغير، نرى دوائر صغيرة تتشكل: مبادرات في الأحياء، أنشطة في المدارس، مجموعات شبابية على المنصات، دوائر قد تبدو صغير في البداية، لكنها تتسع شيئَا فشيئًا لتبني بيئة أكثر وعيًا وتعاونًا.
الشباب هنا لا يصبحون مجرد موارد بشرية تنتظر للتوظيف، بل محركات للتأثير والتغيير. مبادرات يقودونها بأنفسهم، حلول يبتكرونها من واقعهم، وأفكار تتحول إلى مشاريع تنموية تخدم غيرهم.
المؤسسات تحتاج إلى دماء جديدة
مثلما يتغير المجتمع، تتغير المؤسسات أيضًا. حين يمتلك الشباب الثقة والمهارة، يدخلون المؤسسات العامة والخاصة بروح جديدة. يصبحون أكثر قدرة على قيادة الفرق والمبادرات من الداخل، ويمنحون المؤسسات عقلية مرنة ومبدعة.
لم يعد التغيير هنا قرارًا إداريًا من الأعلى، بل تيارًا طبيعيًا يخلقه الأفراد المؤهلون الذين يتبنون أسلوبًا مختلفًا عن الطرق القديمة، ويبحثون باستمرار عن حلول مبتكرة.
الاقتصاد لا يُبنى بالمال وحده
عندما يولد الإنسان من جديد، يولد الاقتصاد معه. الشاب الواثق بنفسه لا ينتظر وظيفة فقط، بل يخلق فكرة ريادية. ومن أعاد اكتشاف نفسه، لا يدخل المؤسسة كرقم، بل كطاقة إبداعية قادرة على رفع الكفاءة والإنتاجية. وهكذا تتوسع فرص التوظيف، يزداد زخم ريادة الأعمال، وترتفع جودة الموارد البشرية. التنمية الاقتصادية لا تبدأ من السياسات والتمويل وحدهما، بل تمكين الإنسان ليكون شريكًا في البناء.
مهمتنا في حنّان
ما بين بناء الإنسان وبناء المؤسسة، تتكون حلقة متكاملة من التغيير، ترتكز على الإيمان بقدرة الفرد على التجدد الذاتي. وتحتاج العملية إلى بيئة حاضنة تدعم التجربة وتحتفي بالفشل قبل النجاح. في هذا السياق، تبرز أهمية البرامج والمبادرات التي تركز على تعزيز المسؤولية المجتمعية، وتطوير المهارات الشخصية، والمهارات القيادية لدى الشباب ليصبحوا صانعي الأثر لا مجرد متلقين له. فالرحلة الحقيقية تبدأ حين يؤمن الشاب بقدرته على صناعة الفارق، مهما كانت البداية صغيرة أو الخطوات متعثرة.
انطلاقًا من هذا، نعتبر برامج حنّان رحلة ولادة جديدة، رحلة نعيد فيها تشكيل الطريقة التي ينظر بها الشاب إلى نفسه، إلى مجتمعه، وإلى العالم من حوله. رحلة تصنع منه مواطنًا مسؤولاً، مسلحًا بالمهارات، وقائدًا يحمل رؤية، ورائد تغيير يعرف أن له مكانًا في المستقبل.
أحيانًا لا نحتاج أن نعود كما كنا قبل الأزمة، بل أن نولد من جديد. نولد بروح أوعى، بإرادة أقوى، وبرؤية أعمق. ولادة لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل، من الإنسان.